.

.

الاثنين، 17 أغسطس 2009


أول من سبر أغوار الخليج
كاظم فنجان الحمامي
كانت سواحل العراق الجنوبية منطلقا لفرق المسح الهيدروغرافي, التي رسمت معالم المسالك الملاحية الأمينة, من مضيق (هرمز) وحتى (القرنة) حيث اقتران دجلة بالفرات. . فرق تحملت أهوال البحر, ومزاجه المتقلب, وبيئته القاسية. أخذت على عاتقها تحديد المسارات الصحيحة, التي ينبغي أن تسلكها السفن في طريقها نحو كل المرافئ والبنادر الخليجية. وتفننت في غرس فنارات الاسترشاد في أعماق الممرات الضيقة. ونجحت في تأثيث القنوات الضحلة بالعوامات والإشارات الملاحية. وأبدعت في نصب نقاط التثليث, وعلامات التسوية على ضفاف شط العرب وخور عبد الله. .
رجال امتزج عرقهم بأطيان الشواطئ الخاوية. وذوت أعمارهم في غياهب الأغوار السحيقة. وتبددت أحلامهم فوق الأمواج الصاخبة. وغاصت سيقانهم في أوحال الأنهار. ومشوا حفاة الأقدام بين أحراش القصب والبردي. وخنقتهم رياح (الكوس) المشبعة برطوبة المحيط الهندي, ومزقت أجسادهم ملوحة البحر. لكنهم تحدوا الصعاب. وصمدوا بوجه الظروف القاهرة. وتركوا لنا سفرا خالدا, مفعما بالوفاء والعطاء, ومعطرا بعبق رائحة البحر, ومنقوشا على مسطحاته المترامية الأطراف. .
كانوا يستخدمون الطرق البدائية في سبر الأعماق. ويستعينون بالأساليب التقليدية في الاستدلال على إحداثيات المواقع. ويهتدون بالحسابات الرياضية المضنية في حل المعضلات الهندسية. ومع ذلك نجحوا في مسح قيعان الخليج, وجالوا في أخاديد دلتا شط العرب. وكانت لهم الريادة في تشخيص ملامح السواحل. والتعرف على الممرات البحرية. ورصد تياراتها المائية. وتدوينها على خرائط كنتورية, مؤطرة بخطوط الطول والعرض. وموضحة بمقاييس الرسم. وتركوا لنا مكتبة عامرة بالخرائط والمخططات, والدراسات البحرية والنهرية. .
استقروا منذ بداية القرن الماضي في مدينة (الفاو). وانطلقوا من هناك في كل الاتجاهات المتاحة لهم. وارتبطوا فيما بعد بسلطة الموانئ العراقية. ورافقوا سفن الحفر المكلفة بتهذيب القنوات البحرية المؤدية إلى الموانئ الواقعة على شط العرب, وأزالوا الأطيان والترسبات الغرينية من قناة الروكا. وانيطت بهم مسئولية مراقبة تردي الأعماق بفعل الترسبات الهائلة, التي منيت بها شرايين العراق الملاحية. .
واكبوا عمليات حفر قناة (السد الخارجي Outer Bar). وقناة (السد الداخلي Inner Bar). وقناة (مدخل الفاو Fao Reach). وأسسوا قواعد أبراج فنارات التطابق, وحددوا خطوطها الوهمية. وواظبوا على صيانة قناة (سد كارون Karun Bar) في مواسم الفيضان. وحددوا مواقع الأرصفة المينائية. ونشروا مقاييس المد والجزر في الأماكن الحساسة. ووزعوا العوامات الملاحية على امتداد الممرات المخصصة للسفن. وشهدوا ولادة نهر (شط البصرة), وربطوه بخور الزبير. ونفذوا مشاريع صيانة السواحل العراقية. ورصدوا مناسيب المياه في كل المواسم. وكان لهم قصب السبق في الإبداع والتميز, فنالوا ارفع الدرجات المهنية في تخصصهم. وشهد لهم العالم كله بحسن الأداء, ودقة البيانات, ورصانة المعلومات. .
رجال أفذاذ تعاقبوا على رئاسة الفرق الهيدروغرافية والهيدرولوجية. وطبعوا بصماتهم في ذاكرة الطين والماء. .
مازالت آثارهم شاخصة في منعطفات شط العرب, ومقتربات خور عبد الله. آثار تحكي قصة الكفاح المرير في تعبيد الطرق البحرية فوق المسطحات الزرقاء. تجدهم في سيحان, والهارتة, والدورة, والمخراق, والواصلية, واللباني, والصنكر, والسراجي, والمعقل, ورأس البيشة, والهاتف, والقصبة. .
ومازالت صورهم مرتسمة على ضفاف الشواطئ المزدحمة بغابات النخيل, وتنبعث من رمال أم قصر وخور (السقة), وخور (بحرة), و(وربة). .
صور رائعة لقوافل المبدعين والمتميزين. اذكر منهم : مهدي موسى, ومحمد الحبوبي, وحسن محمود, وعبد المجيد محمد حسن, والكسندر فرجيبيان. ويوسف العامر. .
وتصاعدت وتيرة المسوحات البحرية على يد (فريد يوسف البسام). ذلك الرجل الحجازي القادم من قلب الصحراء العربية. فأضاف بخبرته المعهودة لمسات جديدة, أسهمت في توسيع آفاق المسوحات المائية, في خضم الكثافة المرورية, التي رافقت الحركة الملاحية شمال الخليج العربي. .
ثم جاء بعده (طالب جاسم محمد) ليكمل المسيرة بخطوات متصلة بجسور الماضي المزدهر. وتلاه (عيسى جاسب الطوب). ثم (عبد الرزاق جاسم). ومازن خريبط الخيون. وينهض بها الآن شاب طموح, هو سمير عبد علي مرزوق. .
كانت سفينتهم التي حملت اسم (الفاو) من أجمل السفن التخصصية. أنها سفينة رشيقة البدن. أنيقة المظهر. مغزلية القوام. تنساب في إبحارها, وتتبختر في مناورتها. وكأنها يخت ملكي صغير يعوم في فردوس الرافدين. أو عروس سومرية. أو مهرة عربية أصيلة, مزينة بالأنوار البهيجة, والصواري المتسامقة. تهابها السفن التجارية, وتغار منها النوارس والمراكب المحلية.
فخصصت لها إدارة الموانئ العراقية رصيفا معزولا عن بقية السفن الخدمية. خوفا عليها من أن تصاب بخدش بسيط يشوه طلعتها البهية. ثم صارت رمزا من رموز الطوابع البريدية في عدة إصدارات محلية. .لكنها للأسف الشديد تنزوي الآن بين السفن المحطمة. وترقد بين الزوارق المهملة. على الرغم من ماضيها الحافل بالنشاط الملاحي. وعلى الرغم من احتفاظها بنكهة الأجداد والآباء, الذين ساهموا في تدوين تاريخنا البحري.
وارى انه ينبغي علينا التفكير بجد في إعادة تأهيلها, وتحويلها إلى متحف بحري عائم. يعيد إلى الأذهان تلك الصور الرائعة من تراثنا البحري العريق. .